طوفان الأقصى وتداعياته- هل تستغل روسيا والصين الفراغ الأمريكي في الشرق الأوسط؟

قبل السابع من أكتوبر عام 2023، تاريخ بدء "طوفان الأقصى"، ترسخ في أذهان واضعي السياسات في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبالأخص منذ عهد أوباما ومن جاء بعده، أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لم يعد يستدعي بذل جهود سياسية كبيرة في الشرق الأوسط.
هذا التصور يستند إلى الاعتقاد بأن الدول العربية المحورية أصبحت أكثر ليونة وتقبلاً لسيناريوهات التطبيع الواسعة والجريئة، تلك الدول التي تمثل مراكز النفوذ السياسي والحضاري، والتي تمتلك "الكلمة المسموعة" والتقدير الإقليمي الذي لا يمكن تجاهله في حال وجود توافق دولي وإقليمي على رؤية مقبولة لمستقبل المنطقة.
بالتوازي مع ذلك، كانت الإدارة الأميركية مقتنعة بأن المقاومة الفلسطينية – قبل السابع من أكتوبر – أضعف من أن تحدث فوضى واسعة، وأن "العنف المحتمل" المتوقع يمكن السيطرة عليه بالوسائل والخبرات التقليدية الموروثة.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، قامت الولايات المتحدة بإعادة ترتيب أولوياتها، ووضعت "المحور الآسيوي" في مقدمة اهتماماتها، مع تقليل الاستثمار السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، وذلك بغية التركيز بشكل أكبر على التحديات المتنامية في البيئة الأمنية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولا سيما الصعود الصيني الذي يصفه الخطاب السياسي الأمريكي الرسمي بـ "العدواني".
ولكن، حرب غزة قلبت هذه الاستراتيجية رأسًا على عقب، وأجبرت الولايات المتحدة على التدخل بشكل أعمق في قضايا المنطقة أكثر من أي وقت مضى.
لم تكتفِ واشنطن بالانخراط في "حل" الأزمة، كما تحاول أن تظهر للعالم، بل أصبحت شريكًا أساسيًا في العمليات العسكرية. لم تمنح الغطاء السياسي والدبلوماسي للهجوم الإسرائيلي الشرس وحمايته من المساءلة القانونية فحسب، بل قدمت الدعم اللوجيستي والاستخباراتي، وزودت المخازن الإسرائيلية بالأسلحة بكميات لم تستخدمها الإدارة الأمريكية نفسها في أي من الحروب التي خاضتها خارج حدودها، بالإضافة إلى استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن، في مواجهة الخسائر البشرية المتزايدة والأدلة على التجاهل الإسرائيلي المروع للضحايا الفلسطينيين.
هذا الدور ألحق المزيد من الضرر الجسيم بمكانة أمريكا في المنطقة، والتي لم تكن في الأصل مرموقة، مما أوجد فراغًا كان من المتوقع أن تملأه القوتان العالميتان الصاعدتان: روسيا والصين، ولو من خلال امتلاك أدوات "المشاغبة بالمثل"؛ للتخفيف من الضغط الأمريكي عليهما في أوكرانيا وتايوان على التوالي.
تاريخيًا، ومنذ عهد ماو تسي تونغ (1893 – 1976)، دعمت الصين القضية الفلسطينية، انطلاقًا من مبدأ أن كل ما تؤيده الولايات المتحدة، يجب على الصين أن تعارضه، باعتبارها داعمًا رئيسيًا لدول الجنوب، والتي تشمل معظم الدول العربية التي تحتفظ بعلاقات ودية مع الصين، والتي توفر الجزء الأكبر من احتياجاتها النفطية، بالإضافة إلى تخفيف القلق في العالمين الإسلامي والعربي بشأن معاملة بكين لمسلمي الإيغور في منطقة شينجيانغ شمال غرب الصين، والتي تحتل موقعًا مركزيًا في مبادرة "الحزام والطريق"، وهو مشروع البنية التحتية الطموح الذي أطلقه الرئيس شي جين بينغ؛ بهدف ربط الأسواق في جميع أنحاء العالم، وبالتالي توسيع نفوذ بكين.
وبالمثل، لم تتغير مكانة القضية الفلسطينية في سياسات "الاتحاد السوفياتي" سابقًا طوال فترة الحرب الباردة، ثم روسيا لاحقًا: فقد وجد النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال في الفكر السياسي الروسي – الذي ارتبط بالحركات المناهضة للاستعمار – دعمًا لشرعيته، على الرغم من الانقسام الدولي بشأنه، والملاحقات الأمنية والتصفيات الجسدية والاغتيالات.
ظل هذا الإرث حاضرًا – وإن بدرجة أقل – في أدوات موسكو بعد الحرب الباردة، وذلك لتقليل النفوذ الغربي، وعلى رأسه النفوذ الأمريكي، في المنطقة العربية، فحافظت في العقود الأربعة الأخيرة على علاقات متوازنة مع نتائج التحولات العنيفة في منطقة شديدة الهشاشة، والتي تتكاثر فيها التنظيمات المسلحة بشكل يغري أي قوى إقليمية أو عالمية بإضافتها إلى مجموعة الأدوات المتاحة لتعزيز حضورها وتأثيرها في دوائر صنع القرار الدولي. فاحتفظت موسكو بعلاقات موازية – ولكنها لا تخلو من الاختلالات – مع القوى المتناقضة: إسرائيل، والفلسطينيين، وجماعات مثل حماس، وحزب الله، ومع إيران، والقوى العربية الكبرى.
بيد أنها ظلت علاقات "هامشية"، تفتقر إلى العمق والثقة والاعتماد على روسيا كحليف دولي موثوق به.
في بداية حرب غزة، بذلت موسكو وبكين جهودًا حثيثة لتعزيز مصداقيتهما الدبلوماسية، وإظهار قدرتهما على القيادة، وقد فعل كل منهما ذلك بطرق مختلفة بشكل ملحوظ.
فبعد فترة وجيزة من بدء العدوان الإسرائيلي الانتقامي على القطاع في أواخر أكتوبر 2023، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الهجوم الإسرائيلي ينتهك القانون الدولي؛ وقارن الرئيس بوتين حصار إسرائيل لغزة بحصار ألمانيا النازية للينينغراد.
وقد ردد العديد من الشخصيات السياسية والمشرعين الروس هذا الموقف الرسمي، دون أن يصدر منهم أي إدانة لهجوم حماس، على عكس العواصم التي تتبع واشنطن بشكل وثيق، وذلك قبل الخلافات العميقة الحالية مع ترامب بعد توليه السلطة، وقراراته بالانسحاب التدريجي من حلف الناتو، وترك أوكرانيا في مواجهة بوتين.
وبعد ثلاثة أسابيع فقط من هجوم حماس في جنوب إسرائيل، استضافت موسكو وفدًا رفيع المستوى من الحركة، برئاسة أحد أعضائها المؤسسين، موسى أبو مرزوق، وعلى الرغم من أن روسيا استقبلت وفودًا من حماس مرتين في وقت سابق من عام 2023، فإن توقيت هذه الزيارة اعتُبر تحديًا لافتًا لحالة الهيجان الغربي، وانحيازه السافر لتل أبيب.
بررت الدوائر الروسية الرسمية هذا التوجه الجريء – في مواجهة الانتقادات الدولية – بأنه من الضروري مد جسور التواصل مع جميع الأطراف، من أجل التوصل إلى صيغة ترضيها لوقف ما وصفته بـ "العنف" في الأراضي المحتلة.
صحيح أن المفاوضات أسفرت عن إطلاق سراح رهائن يحملون الجنسية الروسية، إلا أنها وُصفت حينها بـ "بالنتائج المتواضعة"، وأنها لم تسفر عن تأمين دور دبلوماسي لروسيا في حلحلة الأزمة، ولم تقدم أفكارًا روسية دبلوماسية بناءة.
وفي حين أن روسيا سلطت الضوء بشكل كبير على علاقتها بـ "حماس" بكل ما تحمله من رمزية وأهمية سياسية، جاء الموقف الصيني غامضًا وغير واضح المعالم، ولا يعكس أي طموح صيني كبديل محتمل للنفوذ الأمريكي الذي تزايدت الكراهية له في العالم العربي، فقد تبنت بكين سياسة "لا مع ولا ضد"، والتي تشبه الآلات الثقيلة صينية الصنع!
وبغض النظر عن الجهود المعلنة على نطاق واسع لاستمالة الحكومات العربية والرأي العام، وتعزيز صورتهما الدولية على حساب واشنطن، لم تثبت موسكو أو بكين قدرتهما على لعب الدور الدبلوماسي الذي قد يساعد في تمهيد الطريق أمام حل سياسي قد يؤدي إلى تسوية نهائية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
كان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن – ومن بعدهما ترامب وفريقه – الأكثر انخراطًا مع الحكومات الإقليمية، وليس بوتين أو الرئيس الصيني شي جين بينغ، أو وزراء خارجيتهما.
وكانت واشنطن – وليس موسكو أو بكين – هي القادرة على العمل بشكل وثيق مع الدوحة والقاهرة وتل أبيب، لتنسيق سلسلة من فترات التوقف الإنسانية في القتال، وتحقيق تبادل إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس وإسرائيل.
ولا تزال الأطراف الإقليمية ترى أن واشنطن وحدها – على مضض في كثير من الأحيان – قادرة على القيام بالجهود المضنية المطلوبة لتحقيق عملية سلام قابلة للتطبيق، إذا اختارت القيام بذلك.